قلبي دوّدة تأكل أجساد أصدقائي الموتى… من يوميات شاب سوري في أوربا

 عامر مطر

يُمسكني الإحساس بللا جدوى من أذني، فيؤلمني رأسي، اسأل نفسي: ما الذي أفعله الآن هنا؟ هل سأتحدث لهم عن الأحياء أم الأموات في بلدي! لا أعرف.

يتحدّث بان كي مون أمامي عن أطراف الموت السوري، وسأتحدّث بعد قليل في قاعة مجاورة داخل مبنى مجلس حقوق الإنسان في جنيف، وأعرف أن كل ما قيل هنا، وكل ما سأقوله هباء…

سيصل عدد ضحايا السكاكين والقذائف بعد ساعات إلى مئتين لهذا اليوم فقط، ضمن فرامة لحمنا اليوميّة.

بعد الهباء، عدت إلى الفندق، كتبت مرثية لصديق سرقت القذائف ملامحه، ووضعتها في ملف المرثيات على سطح المكتب، يتخللني الإحساس بالقرف من نفسي؛ أنا كالدود الذي يأكل أجساد الأموات… تعبت من الكتابة عن أصدقائي القتلى.

أفكّر بعملي منذ أول الثورة، وجدواه… هل أنقذ الإعلام طفلاً سورياً واحداً من الذبح؟ هل وقفت المجتمعات معنا بعد أن صورنا لهم مشاهد تدمير مدننا وأجسادنا المقطّعة؟

تحوّل الشعب السوري إلى مصورين وإعلاميين، أملاً في تحريك الرأي العام العالمي لإنقاذهم. رفع آلاف الشبان كاميراتهم لتوثيق ثورتهم ففقد بعضهم حياته.

بعد آلاف الفجائع، تحوّلت ذاكرة كل سوري إلى مقبرة جماعيّة، ضحاياها الناس والأماكن، أحسّ بسذاجتنا، وبكذبة إنسانيّة الآخر التي صدقناها.

في نفق المترو شاشات كبيرة تنقل الإعلانات ونشرات أخبار موجزة باللغة الألمانية، يمرُّ الناس بسرعة، وتتحرك القطارات، وفي كلّ محطة أصادف مشهد رعب سوري.

نجح ثوّار بلدي في نقل مشاهد يومية من فجائعهم إلى كل مكان في العالم، لكن ما جدوى ذلك والفجيعة تتسع.

أعود إلى البيت في حالة فصام حادّة حوّلتني إلى إنسان افتراضي، يرفض الخروج من فيلم الرعب السوري الذي يمر الناس في محطات القطار أمامه، ويغمضون أعينهم عنه، كما يفعلون مع الإعلانات التي لا تعجبهم.

أعيش الفصام، وأحسّ أن لي رائحة الأسماك الميتة المعزولة عن محيطها، والمرمية في لوحات يوسف عبدلكي.

سافرت بعد أيام إلى بركسل، كانت المدينة تحتفل بعيد سنوي تُمنع فيه السيارات من المشي في الشوارع. الناس يرقصون في كلّ مكان؛ فكّرت للحظات: هل سقط النظام هنا! فيلدغني ما أحمله من رائحة السمك الميت.

عند الظهر بدأت ندوة عن الواقع السوري، في قاعة صغيرة وسط المدينة، ضمن تظاهرة ثقافيّة هامشيّة لعرض نتاجات فنيّة سوريّة.

في القاعة أقل من خمسين مُسن وصديق، يجلسون على نصف المقاعد، ويتكرر الكلام عن أرقام القتلى ووفرته في بلادنا، والتأكيدات أن الثورة ليست طائفية…

أثناء اجترار الكلام، غادر رأس الطفلة فاطمة جسدها، وكنت هناك… أقصُّ  علاقة الجسد السوري بالسكين والقذيفة، وامتزاج الجثة المحترقة بالهواء.

سألتنا عجوز في الندوة: “هل أستطيع السفر إلى بيروت للاحتفال بزفاف الأصدقاء؟”، تلمّستُ جثتي القادمة، “يا جدّة… قد لا تستطيعين الفرح، لأن الهواء يحمل رائحة الجثث إلى المدن القريبة”.

سيعلّق في ندوة قادمة عجوز أوربي آخر: “نخشى عليكم من الإسلاميين”. وتمر السكاكين حينها على أعناق جديدة…

الأسئلة تُرسّخ الفصام، ورائحة أسماك عبدلكي لا تغادرني، حقدت على صوتي، وعلى كل الإجابات، وكأن حنجرتي تُخرج الدوّد الذي يأكل أجساد أصدقائي الموتى.

يُمسكني مجدداً احساس اللا جدوى من أذني، ويرميني في منزلي، ويدفعني إلى يقين أن الإعلام فعل تافه حين يتوجه به اليوم السوري  إلى غيره.

على الفيس بوك، يبدأ أحد الأصدقاء حديثه بأحجية سوريّة الواقع: “احزر مين استشهد؟” تهجم صور أصدقائي دفعة واحدة… يتأخر في الإجابة، ويتجاوز قلبي كل الصور، ويصل إلى وجه أمي وملامح أبي. يرد: “عبده المصري”.

يا الله، سقطت قذيفة على منزله في بساتين المزة، فلم يمت. أسعفوه إلى مستشفى الرازي القريبة، لكنها رفضت استقبال صديقي الإرهابي، فاستقبلته السماء.

سأستوقف عن الكتابة، وتصديق كل أكاذيبي حول جدوى الإعلام في إنقاذ أجساد السوريين من القتل والتنكيل، لا جدوى… 

 

3-10-2012

http://alhayat.com/Details/441910

صورة

أضف تعليق