أنطولوجيا جديدة للشعر السوري الحديث لمنذر المصري: شركائي أكثر من ثمانين شاعراً سورياً

حاوره عامر مطر: 
قصيدة بسيطة، وقصيرة، تقرأ خلال دقائق، تبدو كأنها كتبت في مدّة قصيرة، لكنها لا تغادر البال أبداً. يكتبها دوماً تشكيلي سابق، وشاعر مهلوس، يعتبر أن سوريا وحدها بلده، على رغم أن اسمه منذر المصري. كتابٌ جديد يصدر له قريباً، يقدم فيه أكثر من ثمانين شاعرا سوريا اختارهم ليقدمهم في أنطولوجيا مختلفة للشعر السوري. سمّى الكتاب “منذر مصري وشركاؤه”، لكن ما المعيار الشعري الذي استخدمه في تحديد شركائه المزعومين؟ يجيب:
– من هم شركائي المزعومون؟ إنهم من وردت أسماؤهم في الكتاب، هذا الجواب الأدق الذي أستطيع أن أقدمه اليك مبدئياً، وهم عددياً ما يقارب الثمانين شاعراً سورياً، ماعدا ثلاثة أو أربعة منهم، أحدهم ناظم السيد. منهم شركائي الى درجة أنهم يشكلون معي عصابة، نتناوب على قيادتها بالقرعة أو التطوع أثناء قيامنا بالغارات على القطارات وعربات السفر. ومنهم من لا أعرفهم إلاّ بالاسم، والشعر طبعاً. ولأن قصائد هذا الكتاب مكتوبة بواسطة جمل الآخرين وأحاسيسهم وأفكارهم، لذا يسهل عليَّ مديحه إلى أبعد حد. لأجل توضيح هذا وغيره، كتبت له مقدمة “دبور يجني رحيق الأزهار ليصنع عسلاً”، وذلك بدل أن أقول “مصاص دماء، وطواط، يغرز أنيابه في رقاب الشعراء ويمتصّ دماءهم” وقليلاً من أرواحهم. طبعاً “الڤامبير” يفضل أن يبقي ضحاياه أحياء لإنتاج غذائه، اعتزازي به يتأتى من أنه يتيح الفرصة، أكثر من أي أنطولوجيات سابقة أعدّت عن الشعر السوري، لا يدعي هو بأنه يحاول مجاراتها، لرؤية الإنجاز الشعري السوري بأعمق وأروع صوره. لا تتصور مدى غبطتي وأنا أمد يدي وأقطف الثمار المحرمة من البستان المطوق لهذا الشعر. ثماره الناضجة والفجة، المعتمة والمشعة، التي تتدلى من أغصان أشجارها، أو الساقطة أرضاً بعد طول انتظارها أن يقطفها عابر. إلا أن عابرين كثيرين مروا ولم يفعلوا شيئاً سوى الدوس عليها.
• صدر لك كتاب بعنوان “انعطافة السبعينات”، في سياق الانطولوجيا الشعرية التي أصدرتها الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية 2008. هل تظن أنك أوفيت جيل السبعينات حقه في كتابك السابق؟
– نعم أظنني فعلت، ولكني أعتبر الكتاب في ذاته مسوّدة كتاب، ليس فقط بسبب الأخطاء الإملائية والمطبعية وأخرى تنتشر على كل صفحاته، بل كان هناك تسرع في اختيار القصائد لعدد من الشعراء، وخصوصاً من لست على إطلاع حقيقي على تجاربهم. كما أنني قصرت في إيراد عدد من الشعراء لاعتبارات عديدة، كأمل الجراح مثلاً، أو أيمن أبو شعر الذي كان يشكل ظاهرة في تلك الأيام، أما نوري الجراح الذي أعتبره سبعينياً بامتياز، فقد آثر المشرف على الأنطولوجيا أن لا يتضمنه كتابي لأنه وارد بين شعراء الجزء الرابع.
• حضر في الكتاب شعراء لا يعرفهم أحد وغاب عنه شعراء معروفون ولا يزالون موجودين في المساحة الشعرية. أليس في هذا شبهة الانقياد للمزاج الشخصي؟
– كل كتاب، مهما يدَّعِ الحيادية، يتحكم به رأي صاحبه؛ حتى في تحديد ما هو حيادي وما هو العكس. نعم أوردت شاعراً يكاد الآن لا يعرف اسمه أحد، وهو محمد خير علاء الدين، وذلك لأني أعتبره الفرصة الضائعة للشعر السوري الحديث. المرة الأخيرة التي التقيت فيها أدونيس، سألته إذا كان قال “إذا كان محمد خير لا يزال يكتب الشعر، فالشعر في سوريا بخير؟”، فأجابني “نعم. قلت شيئاً كهذا لا ريب. وأريدك أن توصل اليه أنني مستعد لمد يد العون اليه بطباعة شعره في دار نشر معروفة”. أما محمد سيدة، فكيف أكون جاحداً ولا أذكره. أما قولك لا يزالون موجودين في المساحة الشعرية، فهذا لا علاقة له بمحور الكتاب، ألا وهو انعطافة السبعينات في الشعر السوري، الذين غاب عدد منهم الى الأبد.

إشكاليات أخرى

* تعتبر أن الماغوط أب شعري لك، على رغم انك لم تتأثر به شعرياً، وقد أثار وصفك لشعراء سوريا بأنهم خارجون جميعا من عباءة الماغوط انتقادات واسعة، ألا ترى أن هذا الكلام ينطوي على تجديف، نوعا ما ؟
– ذكرت مرة، أن الماغوط كان يزورنا في البيت، وأنه كان يستغل انشغال آبائي الحقيقيين، توفيق الصايغ، وجبرا ابراهيم جبرا، وشوقي أبي شقرا، وأنسي الحاج، في المناقشة وقراءة الشعر، فيتسلل من دون أن ينتبه اليه أحد، إلى المطبخ حيث تكون هناك أمي مشغولة بإعداد أطباق الطعام. بالتأكيد تأثرت به شعرياً، كيف لي أن لا أفعل، لا حد للإغواءات الماغوطية، وفي الوقت نفسه كيف لي أن أتأثر بأي شيء آخر هو عليه؟ كونه يكتب قصيدة نثر شيء، وهو كشاعر وإنسان، شيء آخر. منذ البداية كان تصميمي أن أكون شاعراً من نوع مختلف كلياً. جيد أن يثير وصفي لشعراء سوريا بأنهم خارجون جميعاً من عباءة الماغوط انتقادات واسعة، جيد أي شيء يثير أي شيء عندنا. كما أنه جيد أيضاً أن ينطوي كلامي على تجديف من أي نوع. علماً بأني لست وحدي من يذهب إلى ما ذهبت إليه، وربما يبتعد أكثر بكثير. في مقالتي “سلالة نوح في الأرض الملعونة”، يذهب الأمر إلى ما هو، أعمق وجوهري أكثر. لقد حاولت أن أبين، بحجج وتحليلات، كيف تستمر القصيدة الماغوطية، وتتناسل. بعد هذا كله، ما يؤسفني بدوري هو أنني لا أجد ما أعتذر عنه.
• قلت في حوار سابق “المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية”. في الشعر، هل يستحق الجيل الشاب الرثاء؟
– لا مفر لأي منتج أن يكون حصيلة ما يُنتج منه، ما يؤلفه. المنجز الإبداعي يعلن عن نفسه كمرثية لحالنا. هذا ليس هجاء له، بل ربما هو أقرب الى المديح، لأني أولاً أعتبره إنجازا، وثانياً ألحق به صفة الإبداعي، ولأني أيضاً أقر يأنه يعكس بصدق ما آلت إليه حالنا اليوم. أذاً، في النهاية، كون المنجز الإبداعي السوري برمته يعلن عن نفسه بدون التباس كمرثية، حقيقة تستطيع استخلاصها من معاينة المنتج نفسه.
أما سؤالك هل يستحق جيل الشباب الرثاء، فأجيب: عليَّ أن أختار الزاوية التي أنظر منها إلى هذا الأمر، فمن ناحية الظرف الموضوعي المحيط به والمفروض عليه، نعم يستحق. أقصد حال الشعر في بلدنا، كمهنة، كطريقة عيش، كتسلية، بالمقارنة مع أي مهنة أو طريقة عيش أخرى. خذ الرسم، أو الرواية، مثلاً. ليس في وضع الشعراء ما يحسدون عليه من أي زاوية نظرت. نعم جيل الشباب، جيل التسعينات وما بعده، يستحق الرثاء البليغ، على رغم الإحساس غير المريح الذي أشعر به تجاه قول كهذا. سمعت الكثير من الشعراء الشباب أنفسهم يرددونه أمامي: “نيالكم، في أيامكم كان الناس يهتمون بالشعر، كان يوجد من ينتبه ويهتم، أمّا اليوم…”. غير أن هناك ما يدفعني الى التعميم بأن كل أجيال الشعر السوري منذ السبعينات الى الحاضر القريب تخضع للشرط نفسه.

داخل القصيدة

• النزوع نحو قصيدة التفاصيل اليومية جعل قصيدة النثر في رأي البعض تتجه نحو الثرثرة والفراغ، في حين أن أصواتا نقدية الآن تطالب بمنح القصيدة بعداً معرفياً أوسع، بمعنى ترسيخ قصيدة حداثية مثقفة. إلى أي مدى تتفق مع هذه الآراء؟
– نعم جُعِلَ منها كذلك، ونعم اتفق مع هذه الآراء. على رغم عدم موافقتي على فكرة المطالبة بذاتها. أظنه معروفاَ عني تحصيلي العلمي، وولعي بالرسم والسينما والموسيقى وغير ذلك، لكن هذا لا يجعلني شاعراً أفضل مني اليوم عن الشاعر الذي كنته منذ عشرين سنة. أقصد المزيد من المعارف والخبرات ليس في الضرورة أنه يؤدي لكتابة قصيدة أفضل. هذا شيء خبرته، إلا أني قلت، نعم أوافق أن القصيدة إنتاج ثقافي ومعرفي إلى حد بعيد، إلا أنها أولاً إنتاح حسي وشعري قبل كل شيء. أما عن تفاصيل الحياة اليومية فهي شيء لا بد منه في القصيدة، وإلا بقي مجال الشعر هو الأفكار والذهنيات. شاعر شبه ميثولوجي كنوري الجراح تشغله تفاصيل حياته جنباً الى جنب تأملاته وخواطره، وكذلك تفعل هالا محمد الذي يتصف شعرها بتقليب الفكرة ورؤيتها من وجوهها، وكذلك حازم العظمة ومحمد دريوس، أما أختي مرام وزياد عبد الله وعلي حميشة ونجيب عوض وحسام جيفي فهم شعراء تفاصيل حياتية حقيقيون.
• يقول بو علي ياسين لك: “لم أكن أتوقع في حياتي أن يكون هناك شاعر يعذب قصائده وتعذبه قصائده مثلك”. متى تنتهي من خلق القصيدة؟
– أعمل كثيرا على قصيدتي، هي قصيدة بسيطة تبدو كأنها كتبت بخمس دقائق، لكني أعمل عليها سنوات. ظروف نشري لشعري وطبعي الهلوسي أوصلاني الى هذا المرض. وذلك أدى الى إيماني بفكرة شديدة السوء، وهي أن القصيدة دائماً قابلة لأن تُكتب بطريقة أفضل. فلا أنتهي منها إلا عند شعوري بأنها الآن مكتوبة بأقرب طريقة الى الكمال، وبأن المزيد من العمل عليها سيفسدها، وكثيراً ما أفسدت قصائد. هذا الاقتراب ما أمكن لأفضل طريقة تُكتب بها القصيدة هو ما أضمنه لقارئي غالباً. لكني أيضاً أغيّر فيه كلما سنحت لي الفرصة. على شرط أن أحافظ على الوفاء للزمن الذي كتبتها فيه. أقصد أني أحاول إعادة كتابة ما لم أستقر عليه من قصائد، لتغدو بأفضل مستوى ممكن، ضمن الشروط الخلاّقة التي كتبتها بها سابقاً.
• يحمل شعرك خفة دم واضحة، إلى أي مدى تحتمل القصيدة الحديثة الفكاهة؟
– الشعر أساساً ثقيل الدم، حتى أني كثيرا ما كنت أردد قولاً لا أذكر أين قرأته، “الآلهة تحسد الشعراء على كآبتهم”. لكن قصيدة “البحار القديم” لإزرا باوند تنتهي بنكتة استعملها مرة المصريون في إحدى مسرحياتهم التهريجية: “أنا مش أبوك أنا أمك”. طبعاً في بدايتي كنت، بكل صفاقة، أدّعي أني أقدم تصوراً مخالفاً في كل شيء للشعر. كنت أقول أريد أن أكتب شعراً ضد الشعر. لكني حينها كتبت “رحلات شقائق النعمان” و”المقاطع الخمسة” و”الدرس” و”تواريخ”، وجميعها قصائد شبه ريلكية. ما كنت أحاوله هو التخفيف من وطأة الشعر على الآخرين. أن أجعله ممتعاً، هذا ما يجعل الخفة واضحة عليه، لكني أعود وأقول، إنها خفة ظاهرية، فأنا أيضاً شاعر كئيب أبعث على الضجر.

دمشق- جريدة النهار

كانون الأول ٢٠٠٩

أضف تعليق